بقلم الدب الأكبر*
الصورة: © أكرم زعتري ، مأخوذة عن هاشم المدني ومؤسسة العربية للصورة ، بيروت

 

هذه قصّةٌ حقيقيةٌ* من قصص بناتِ حارتنا، وقد وقعت معظم أحداثها في مدينة الزرقاء/حي الغويرية في ثمانينياتِ وتسعينياتِ القرن الماضي. كنتُ شاهداً عليها، ومشاركاً إلى حدٍ ما في أحداثها. ولطالما حلمتُ بكتابتها، وقد حال بيني وبين ذلك كوني لستُ من أهل الكتابة الأدبية. ولكن لا بدّ من روايتها للناس؛ فهي تستحق الرواية وتستحق النشر، بل وتستحق أن تعاد كتابتها بطريقةٍ احترافيةٍ تحوّلها من مجرد قصةٍ إلى روايةٍ يُحتفلُ بها.

إنها قصة مقاومةٍ وتمردٍ ورفضٍ للصور والقوالب النمطية، إنها قصةٌ أملٍ خابَ وبسمةٍ زالتْ ودمعةٍ لم تجفَّ وذكرى لا تزالُ تدقُّ على شبابيك حارتنا ليل نهار. إنها قصة سميرة؛ تلك الفتاةُ التي أكادُ أجزم أنها موجودةٌ في كل حارةٍ من حواري الزرقاء والأردن. سميرة، تلك الفتاة التي لا تزال تجول في خاطري وخاطر من عرفها كما يجول شادي في خاطر فيروز.

تتمحور قصة سميرة حول ثلاثة مواضيع رئيسية: حقوق المرأة والأفكار النسويّة، ظاهرة الفتاة المسترجلة، المثلية الجنسية. كما أنها تتطرق لمواضيع أخرى، مثل: الحجاب، التحرشات الجنسية والمعاكسات، انتهاك الخصوصية، تفكك وانهيار مجتمعات الحواري، الغربة المجتمعية.

وتكمن أهمية هذه القصة في عرضها، ومناقشتها إلى حدٍ ما، لمواضيع حقوق المرأة والأفكار النسوية والمثلية الجنسية بطريقةٍ تبتعد عن الإسقاطات والتنظيرات الأكاديمية؛ وذلك للبرهنة على أنّ هذه المواضيع ليست منتجاً أجنبياً ولا مؤامرةً غربيةً على الإسلام بل هي ابنةٌ “شرعيةٌ” لمجتمعنا الأردني ومجتمعاتنا العربية. وأكاد أجزمُ أنَّ من سيقرؤون هذه القصة، خصوصاً أولئك الذين عاشوا في مثل ذلك المكان وفي تلك الفترة، سيعترفون، بينهم وبين أنفسهم على الأقل، أنه قد سبق لهم وعرفوا “سميرة” مثل هذه السميرة.

هي قصة، ولكنها رسالةٌ ودعوةٌ أيضاً؛ رسالةٌ إلى ابنة حارتنا التي يؤمن كاتب هذه السطور، كما يتضح ذلك في نهاية القصة، بأنّ حكايتها لم تنتهي بعد وأنها الوحيدة التي يحق لها أن تكتب نهايتها، ودعوةٌ إلى بنات حارتنا ليأخذن العبرة والفائدة منها وإلى أهل حارتنا، وحارتكم، ليعيدوا رد الاعتبار لسميرة ولما تمثله سميرة.

 

نحن لا نتعود يا أبي إلا إذا مات شيءٌ فينا، وتصوّر حجم ما مات فينا حتى تعودنا على كل ما حولنا!

(ممدوح عدوان، من كتاب حيونة الإنسان).

 

وُلدت سميرة لأبٍ فقيرٍ توفي وهي لا تزال على مقاعد الدراسة الابتدائية، ولأمٍ مكافحةٍ دفعها موت شريك حياتها إلى العمل كخيّاطةٍ منزليةٍ لتوفر لبناتها الخمس وولدها عيشاً كريماً. بماكينة خياطة سينجر استطاعت أم سميرة أن تشتري منزلاً قبالة منزلنا، وأن تدرّس بناتها في الجامعات والكليات. أما ابنها الذي كان مغرماً بكرة القدم، فقد صار لاعباً ومُدرِّباً ثمّ صاحب محلٍّ للتجهيزات الرياضية.

أكاد أجزم أنه في كل حارةٍ من حواري الزرقاء ثمة “أم سميرة”، وثمة قصة كفاحٍ ونجاحٍ بطلتها امرأةٌ ومهنةٌ يدوية، قصة كفاحٍ ونجاحٍ لا تلتقطها عدسات التصوير ولا ترصدها أقلام المدافعين عن حقوق المرأة!

أدركت سميرة، منذ نعومة أظفارها، عَظَمَةَ والدتها، وبدأت منذ ذلك الحين تتشكل لديها الإرهاصاتُ الأولى لما يمكن أن أسميها فلسفةً نسويّةً؛ فلسفةً ستعمل في المستقبل على إثارة حفيظة نساء الحارة وكل من عرف سميرة، وكان شعار هذه الفلسفة “المرا أحسن من الزلمة”! كيف لا تخرج سميرة بهذه الفلسفة وهي ترى والدتها تصنع ما يشبه المعجزة بماكينة خياطة، كيف لا وهي لا تكاد ترى شارباً، من تلك الشوارب التي لم يعد يُسمع لها حسٌّ بعد انتهاء بيت العزاء، يمدُّ شعرةً لأمها، على الرغم من إدراكها بأنّ تلك الأم لا تحتاج إلى تلك الشوارب. ولكن فلسفة سميرة لم تكن كلها فلسفةً ظرفية؛ أي محكومة بالظروف الحياتية التي مرت بها، بل كانت فلسفةً عميقة الجذور ومدعّمة بوعيٍ مستمرٍ وثقافةٍ متجددة.

بدأ لقبُ مسترجلة يطلق على سميرة بعد أن وصلت إلى المرحلة الإعدادية. قبل تلك المرحلة كانوا يلقبونها “حسن صبي”؛ وذلك لأنها كانت تفضل الانخراط في نشاطات الأولادِ أكثر من نشاطاتِ البنات. بشكل عام، عندما تصل البنتُ في مجتمعاتنا إلى المرحلة الإعدادية، يفرض الأهل عليها ارتداء الحجاب. تمردت سميرةُ على هذا التقليد. حاولت والدتها إقناعها بارتداء الحجاب بعد أن وصلت إلى الثانوية ولكنها أصرت على موقفها. انتقدها أقرباؤها الذكور، فوقفت لهم بالمرصاد، ولسان حالها يقول “هسه تذكرتوا إنه إحنا قرايب؟!”. كانت سميرة من تلك النوعية من البناتِ اللاتي يبدو مظهرهنَّ الخارجي أكبر من عمرهنَّ الفعلي، ومثل هؤلاء البناتِ يحتجن، بحسب المجتمع، إلى الحجاب أكثر من غيرهنّ. أضف إلى ذلك أنّ سميرة متمردةٌ من الطراز الأول. أذكرها وأنا طفلٌ صغير، في عزِّ الصيف، تقف بكل ثقةٍ على سطح المنزل لتنشر الغسيل، ترتدي تي شيرت أبيضَ واسعاً كلما هبّت نسمةٌ صيفيةٌ عليه يرتدُ إلى صدرها ليشفّ عن حلماتها وليبشّر كل من يتلصص عليها بأنّ سميرة لا ترتدي “ستيانة”. وكان التي شيرت ذا أكمام عريضةٍ تكشف إبطها وجانباً من صدرها المُكْتَنِز، أما شعرها الأسودُ القصير فيتدلى مشاغباً حول رقبتها، وأولادُ الحارةِ هائمون بين محدّقٍ ومنادٍ ومصفّر، وهي لا تأبه لهم. وبعد فراغها من نشر الغسيل، تقترب من سطح البيت المجاور، وتتكئُ على السور، وتميل بجسدها، فتتكوّر مؤخرتها من تحت “البيجامة” القطنية الزرقاء، وتبدأ بعدها بالنداء على وفاء، صديقتها المقربة، بصوتٍ قوي، إلا أنّ فيه بحّة، ولتنشغل معها في حديثٍ تلو حديث.

على الرغم من تودد الأولادِ المتواصل منها ليل نهار إلا أنها لم تكن تعيرهم أدنى انتباه. كانوا يترصدونها في الزواريب والشوارع، ويطاردونها وهي تخرج من بيتها متجهةً إلى مدرستها أو العكس. أذكرها وهي تعود من المدرسة؛ ترتدي مريولها الأخضر، وتضع يدها بيد وفاء وتسيران معاً وكأنهما تتنزهانِ على الشاطئ، إلى أن تصلا إلى بيت وفاء، فتودعها سميرة بقبلةٍ على الخد وتكمل سيرها إلى بيتها الذي لا يبعد بابه سوى بضعة أمتار. قبلةٌ تدفع الأولاد إلى العودة في اليوم التالي، قبلةٌ سببت لها كثيراً من الانتقادات؛ إذْ كانت نساء الحارة يعتقدن أن هذه القبلة بمثابة “الحكي إلك واسمعي يا جارة”؛ أي أنها رسالةٌ إلى أحد الأولاد المتحفزين!

نعم، لم تكن تعيرهم أدنى انتباه، ولكن إذا حاول أحدهم التطاول لفظياً عليها أو على وفاء، خصوصاً وفاء، فتهبُّ في وجهه، أو توجه له شتيمة، بل كانت أحياناً تقفُ أمامه وكأنها تدعوه للنزال وعيناها تقدحانِ شرراً!

بدأ الأولادُ باليأس منها وأخذوا يصفونها بــ”الثقيلة” والمتكبرة والمغرورة، واقترح أحدهم الكفَّ عن مطاردتها؛ فعندها ستشعر بالوحشة بعد أن كانت الأضواء مسلطة عليها وستبدأ هي بمطاردتهم لا العكس! وفعلاً، كف الأولادُ، إلى حدٍ ما، عن استهدافها، ولكن خطتهم باءت بالفشل؛ فلم يتغيّر “موقفها”.

لم يستوعب أولاد الحارة أنّ سميرة أبعد ما تكون عن التكبر والغرور. لم يفهموا أنّ علاقتها بوفاء ليست مجرد علاقة صداقة؛ لم يفهموا أنّ قبلتها اليومية لوفاء لم تكن قبلةً من صنف “عيشو يا شباب”، بل كانت تنبئُ عما كان لا يخطر في بال أكثرِ هؤلاء الفتية…لم يدركوا أنّ القضية ليست قضية موقف. ولم يكن التوفيق حليف نساء الحارة كذلك حين اعتقدن أنّ سميرة مجرد بنتٍ مسترجلةٍ ويمكن اختزالها بعبارة “يمه ما أقواها!”.

وعلى ذكر القوة، فلا بدّ أن أمرّ على حوادثَ وعلاماتٍ تكشفُ عن جانبٍ مهمٍ في شخصيةِ سميرة. ففي إحدى المرات، وفي غفلةٍ من أهل الحارة، دَخل لصٌ من لصوص النهار بيت أم سميرة. كان هذا اللص من أولئك اللصوص الذين يستهدفون اسطوانات الغاز. انتبهت سميرة بأنّ ثمة لصاً في البيت. لم تصرخْ، لم تهربْ، بل أمسكت عصا “القشاطة”، واقتربت من اللص، وعلى غفلةٍ منه ضربته على رأسه بكل ما أوتيت من قوة! فوقع على الأرض، ثم كررت الضربات…ولكن اللص استطاع أن يستجمع قواه ويدفع سميرة بذراعيه…وولى هارباً! وفي هذه الأثناء انتبه أهلها، وفزعت الحارة، وبدأوا يطاردون اللص الجريح. لا زلت أذكر سميرة وهي تقف أمام بيتها بكل فخرٍ وثقة، ممتشقةً عصا “القشاطة”، وكأنها جنديٌّ في إحدى المعارك! لقد كان حادثاً فريداً من نوعه؛ حادثاً صار مضرباً للأمثال والتندّر في حارتنا.

كانت قوية البنية ومغرمةً بفنون القتال، وقد جاهدت لإقناع والدتها بأن تسمح لها بتعلم إحدى الرياضات القتالية، كالكاراتيه أو التايكواندو، إلا أنّ والدتها رفضت الفكرة خوفاً على ابنتها من أن تفقد أنوثتها! ولكن هذا الرفض لم يثنِها عن شراء كيس ملاكمة ومجموعة من الأوزان. ولقد كنت كثيراً ما أدخل إلى بيتها لأتفرج عليها وهي تتمرن. وتحضرني غرفتها، حيث كانت تدرسني على مادة الرياضيات. لم تكن غرفةً عاديةً مثل غرف بقية الفتيات؛ كانت صور بروسلي وجان كلود فاندام وسلفستر ستالون وغيرهم تغطي الجدران، فضلاً عن صور لاعبي كرة القدم المشهورين. كل شيءٍ في غرفتها كان يشير إلى أنني في غرفة ولد، لا بل ربما أزعرَ من زعران الحي: الخزانة التي تغطيها ملصقات على هيئة جماجم وأفاعٍ وبعض مقولات “الزعرنة”؛ الموس الكبّاس المعلق في أعلى المرآة؛ كاسيتات جورج وسوف…هذا بالإضافة إلى الفوضى وقلّة النظافة!

نعم هي قوية، وربما “مشكلجية”، ولكنّ قوتها معجونةٌ بالرحمة…ففي ليلةٍ من ليالي الصيف، تفاجأت أنا وأطفال الحارة بفتاةٍ حافية القدمين تسير في إحدى زواريب حارتنا الضيقة. أرجحُ أنّ عمرها لا يقلُّ عن السادسة عشرة. اقتربنا منها، فرأينا دموعها تنهمر من عينيها وجسدها يرجفُ من الرعب. خرجت سميرة وأمها على صوت ضجيجنا، واقتربتا من الفتاة، وأخذت سميرة تسألها عما حدث لها. بدأ أهل الحارة بالتجمهر. تبيّن أنّ هذه الصبيّة تسكن في إحدى الحارات المجاورة وأنها هاربةٌ من أبيها المنتفض غضباً عليها بسبب ذنبٍ ارتكبته. وهكذا بدأ أهل الحارة بالتفرّق؛ فقد يكون وراء هذه البنت “قضية شرف” ولا أحد يريد أن يورط نفسه في مثل هكذا قضايا! وضعت سميرة يدها على كتف البنت، وعرضت عليها أن تدخل إلى بيتها، فاعترضت والدتها، ولكنّها أصرّت على موقفها واستضافتها وأسقتها الماء والعصير وأعطتها حذاءً تلبسه، واقترحت عليها الاتصال بالشرطة، إلا أنّ الفتاة أبتْ، ثم شكرت سميرة وأمها، ومضت في طريقها ملتجئةً إلى بيت أحد أقربائها.

كانت ولا تزال هواية أو مهنة “كشّ الحمام” حكراً على الأولاد، ولكن سميرة معارضةٌ لسياسة الاحتكار! اشترت زوجين من الحمام، وأتبعتهما بزوجين آخرين، وتكاثر الحمام إلى أن صار لها شبهُ “كشة” مثل بقية “الكشيشة” الآخرين. يا له من مشهدٍ وهي تصعد على ظهر “الزينكو” لتبدأ بالتلويح والتصفير! كان هذا المشهد يستفزّ أهل الحارة، خصوصاً إحدى الجارات التي كانت تردد عبارة “بلكي وقعت عن هالزينكو وانكسر ظهرها مشان تتأدب”! ولكن لم يدم الحال طويلاً، والسبب أنّ بيت أم سميرة كان يتكوّن من طابقٍ واحد، والحمام يحتاج إلى بيوتٍ عالية. اكتفت سميرة على العموم بالتربية دون “الكش”؛ تربية الحمام والأرانب وبعض الحيوانات الأخرى.  

كانت تجد متعةً في مجادلة نساء الحارة اللاتي كنّ يجلسن على عتبات بيوتهنّ، أو يتجمعن في حلقاتٍ شبه دائرية أمام أحد المنازل؛ تجادلهنّ في كل شيء، ولا تتفق معهنّ إلا في القليل…كانت التجسيد الحقيقي لمقولة “خلقتُ لأعترض”. تتعمدُ أن تشعل سيجارة في خضمّ الحديث-لم تكن المشكلة في التدخين بحد ذاته! بل كانت في أن تدخّن خارج حدود منزلها، فهذا مما لا يتقبله المجتمع من الأنثى حتى هذه اللحظة. تغضبُ إذا قالت أم إبراهيمَ إنّ الزواج أهمُ شيءٍ في حياة المرأة، وتحاول تقديم أدلةٍ على فشل مؤسسة الزواج وأدلةٍ على أنّ المرأة ليست بحاجة إلى بَعْل…تزأرُ إذا سمعت أنّ صفيّةَ قد ضربها زوجها وسكتت عن حقها…تنتفضُ إذا أبدت أم عليٍ امتعاضاً لأنّ أسماءَ قد رزقت ببنتٍ ولم ترزق بولد، وتصرخُ بمليء فيها “ومال البنت؟! البنت فيها خير لأهلها أكثر من الولد!”…تسخرُ إذا سمعت أنّ أحمدَ قد ألزم زوجته بارتداء الخمار…ولكنها تبكي، نعم تبكي، إذا سمعت أنّ فلانةَ قد ذهبت ضحيةً لما يسمى بجرائم الشرف!

كان والدي يكره الأرض التي تمشي عليها، ولم يتردد في تحذير شقيقاتي من الحديث أو التعامل معها بأي شكلٍ من الأشكال، ولم يتوانَ عن وصفها بكلماتٍ وعباراتٍ كثيرةٍ منها “وقحة”، “قليلة حيا”، “مش مربية”…وكان يعزو تصرفاتها “غير المقبولة” اجتماعياً إلى الغياب شبه التام للعنصر الذكري في حياتها (كان سعيد أخوها لا يزال صغيراً). لم يكن هذا الموقفُ المجحف حكراً على والدي، فقد أجمعَ أقرباء سميرة وأهل الحارة-باستثنائي أنا وجدّتي-على ذلك، لا بل إنّ شقيقاتِها أعربنَ في أكثر من مرة عن عدم الرضا عن تصرفاتِ شقيقتهنّ الكبرى! بالإضافة إلى أنّ معلماتها وزميلاتها كنّ ساخطاتٍ عليها وعلى سلوكها في المدرسة-على الرغم من أنها كانت من المتفوقات! وهكذا، عاشت سميرة في غربةٍ وسط مجتمعها؛ فلا الأختُ ولا القريبُ ولا الزميلةُ ولا المعلمةُ ولا الجارُ…لا أحد، كما كان يبدو، راضٍ عنها! ولكن سميرة لم يكن يهمها في هذه الدنيا سوى رضا والدتها أولاً ووفاء ثانياً. وإلى وفاء يساق الحديث!

كما ذكرت سابقاً، لم تكن سميرة ووفاء مجرد صديقتين، وأذكر في هذا الصدد أنّ والدتي اعتادت على السخرية من علاقتهما من خلال ترديد عبارة “طيزين في لباس!”. ولم يكن الأمر متوقفاً على قبلةٍ على الخدّ أو على يدين متشابكتين، بل ولا حتى على بعض الأشياء الأكثر إثارة؛ أشياء جرى بعضها على مرأى ومسمعٍ من الجميع، وأشياء تواترت روايات الثقاتِ حولها إلى أن صحّ السند، هذا بالإضافة إلى ما التقطته بعيني الفضوليتين، من مثل: أن تنام إحداهما في غرفة الأخرى وعلى فراشٍ واحد، أو أن تجلس وفاء في حضن سميرة، أو أن تحضنها سميرة من الخلف أو تقبلها على شفتيها…بل امتد الأمر إلى درجة أنّ سميرة كانت تحدث وفاء عن العيش سويّةً تحت سقف واحد! هذا ما اعترفت به وفاء لإحدى شقيقاتي بعد سنواتٍ من انقطاع علاقتها بسميرة!

نعم، لقد انقطعت علاقة سميرة بوفاء. تعتقدُ والدتي وبعض نساء الحارة، ممن كانت هذه العلاقة “المغضوب عليها” إحدى محاور اهتمامهن، أن أهل وفاء هم الذين دفعوا بهذا الاتجاه؛ فقد أخذ والدها وأشقاؤها يضغطون عليها لتقطع حبل المودة مع صديقتها القديمة وشبه الوحيدة. ودارت التعليلاتُ حول أنّ سميرة لا ترتدي الحجاب، لا بل إنها تتعمد ارتداء ما يشفُّ ويكشفُ عن مفاتن جسدها، وهذا يتعارض مع مبادئهم، ويسببُ الإحراج لهم ولابنتهم أمام المجتمع المحافظ. وأنها، بحسب إحدى تعابير والدي، “بنت مش مزبوطة”! وتذهب إحدى شقيقاتي إلى الزعم بأنّ أمّ وفاء قد دخلت يوماً غرفة ابنتها، فوجدتها وسميرة في وضعيةٍ تثير الشبهات…وهكذا، قرر الأهلُ إبعاد ابنتهم عن سميرة!

ربما تكون الأسباب التي ذكرت في الفقرة السابقة قد ساهمت في انفصام العلاقة، ولكن السبب الرئيسي كان اكتشاف سميرة لجسرٍ غراميٍ يربطُ بين وفاء وشابٍ من حارةٍ مجاورة! جنّ جنون سميرة عندما اكتشفت ذلك…تألمتْ، بكتْ، صرختْ، وشعرت بأنها قد تعرضت للخيانة على يد حبيبتها التي كانت تخطط وإياها، رغم استحالة الأمر عملياً، للعيش سوياً! ما لم تستوعبه سميرة في تلك المرحلة هو أنّ وفاء لم تكن تشاطرها معظم أفكارها، كما أنها لم تكن تأخذ كثيراً من كلامها وأحلامها وخيالاتها على محمل الجد…ولكن هذا لا يعني أنها لم تحبّ سميرة، وأنها لم تختبر اللذة معها؛ فمحاولاتها الدؤوبة لإعادة المياه إلى مجاريها، أو إلى منطقة وسطى على الأقل، استمرت لأكثر من عام.

عندما انقطعت العلاقة بينهما كانت سميرة في التوجيهي. خافت أمها، التي لم تكن تعرفُ الحقيقة على ما يبدو، أن يؤثر هذا الحدثُ على نتائج ابنتها في امتحان الثانوية. ولكنّ سميرة، رغم كل الألم الذي كابدته في تلك الفترة، عادت وانتفضت كطائر الفينيق، وأخرجت كتبها، وبدأت بالتركيز على دراستها، واضعةً نصب عينيها رضا والدتها التي كانت تحلم باليوم الذي ترى فيه ابنتها طالبةً جامعية. ومضت الأيام، وجاءت الامتحانات، وظهرت النتائج، ونجحت سميرة بمعدلٍ أهلها لتدرس الهندسة الميكانيكية في الجامعة الأردنية.

التحقت سميرة بالجامعة، وبقيت على سيرتها الأولى من حيث تميزها الدراسي وتمردها الاجتماعي. وقد كانت من الطالبات المشاركات في معظم النشاطات الجامعية. وأخذت تنشرُ مقالاتٍ، أو بالأصح احتجاجاتٍ، في زوايا القرّاء في الصحف الأردنية، وقد ركّزت معظم هذه المقالات على حقوق المرأة. أما وفاء-التي كانت تصغر سميرة بعامٍ واحد-فلم تتقدم إلى امتحان الثانوية وآثرت الزواج من ذلك الشاب الذي شغفها حباً.

دافعت سميرة، وهي على مقاعد الدراسة، عن حريتها ومبادئها ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً، وما كانت تلتفت إلى ما يقوله الأقرباء أو الجيران أو بعض طلبة الجامعة عنها وعن لباسها الفاضح والغريب من وجهة نظرهم، إلا أنها كانت تنصتُ بخشوعٍ، رغم رفضها على الأغلب، حين تنصحها والدتها بارتداء ملابس مستورة على الأقل، أو حين تحثّها على إطالة شعرها قليلاً؛ فكلما زاد طول شعر المرأة زادت أنوثتها. ليس لديّ أيةُ معلوماتٍ موثوقةٍ عن العلاقات الخاصة بسميرة وهي في الجامعة إلا ما ذكره أحد أقربائي الذي كان يدرُس في الجامعة ذاتها، حيث ذكر هذا القريب أنّ المسترجلة لقبها، وأنَّ شلّتها مثلها من حيث المظهر والسلوك، وأنّ ثمة إشاعاتٍ بين الطالباتِ والطلابِ مفادها أنّها وصديقاتها “شاذاتٌ جنسياً”.

انضمّت سميرة إلى نادٍ رياضي وبدأت تمارس كمال الأجسام وتهتم بلياقتها البدنية على الرغم من معارضة والدتها. صار جسدها أكثر قوةً ورشاقة، وتفتّلت عضلاتها. تحضر صورتها الآن في بالي وهي ذاهبةٌ إلى النادي…تحمل الحقيبة على كتفها وتمشي بخطى واثقة…ترتدي تي شيرت أسودَ ذا أكمام قصيرة يزيدُ بشرتها البيضاء بياضاً ويكاد يكشف عن بطنها وأسفل ظهرها إذا ما حرّكت أو رفعت أحد ذراعيها…أما الجينز الأزرق فيفصّل جسدها تفصيلاً…ينزل سنسالُ الفضّة من رقبتها ليدفن رأسه بين نهديها البارز أعلاهما…يداها محملتانِ بالأساور المختلفة الأصناف والألوان، وأصابعها مثقلةٌ بعددٍ من الخواتم…تضع قرطين فضيين في أذنيها تحجب الرؤية عنهما خصلات شعرها القصير…قد تكون هذه الصورة مألوفةً وعاديةً في مناطق أخرى، أما في منطقتنا فهي نادرةٌ جداً!

كبر سعيد، وتفتقت هرموناته الذكرية، وبدأ بشنِّ حملةٍ شعواءَ على أخته. كان سعيدٌ يسمع الأقرباء والجيران وغيرهم يثرثرونَ حول سميرة ونمط حياتها وتصرفاتها وطريقة لباسها على وجه الخصوص. وبدأ يضغط على والدته لتقوم بدروها بالضغط عليها لتغيّر من طريقة لباسها؛ كانت سميرة ابنتهم الوحيدة التي لا ترتدي الحجاب ولا بدّ من تصحيح هذا “الخلل”. تمسّكت سميرة بمبادئها وأصرّت على الخروج من الجامعة كما دخلت، ووعدت والدتها، من باب المجاملة، أن تفكّر بارتداء الحجاب عندما تتخرج. وهذا قد يدلُّ على أنّ سعيداً لم يكن على علمٍ بحقيقة التوجه الجنسي لسميرة، وأنه كان يتعامل معها على أنها مجرد “بنت فايعة” ودواؤها قطعة قماش!

وتخرجت من الجامعة، وحصلت على وظيفةٍ في إحدى الشركات، وصارت تساهم في مصروف البيت. وفي فترةٍ قصيرةٍ أخذت رخصة القيادة واشترت سيارتها الأولى. ازدادت ثقتها بنفسها، صارت أقوى…ولكنْ!

تفرقت شلّةُ الجامعة بعد التخرّج. استطاعت أن تكوّن شلّةً جديدةً ولكن سرعان ما تفرّقت هي الأخرى. كانت صداقاتها وعلاقاتها محدودة. قال لي أحد أصدقائها، وهو شابٌ مثليّ الجنس كان يعمل مدرّباً للياقة البدنيةِ في إحدى النوادي التي كانت تتردد عليها، “كانت تريدُ من كلِّ الناس أن يكونوا مثلها”. بعبارة أخرى، كانت تريد من كل من عرفتهم أن يتحرروا ويتمردوا ويثوروا! ويضيف رامي “قلتُ لها: أنتِ قويّة ولكن غيرك ضعيف…ظروفكِ تختلفُ عن ظروفهم…ثمّ هل أنتِ قويّةٌ فعلاً؟! هل تستطيعين مصارحة الناسِ ومواجهتهم بكل شيء؟!…إذاً فلا تحمّلي الناسَ فوق طاقتهم!”.  

انحصرت حياتها مع مرور الوقت في ثلاثة أماكن تقريباً: البيت والشركة والنوادي الرياضية. أما في البيتِ فلم تترجم الأخوّة إلى صداقة، على الرغم من المشاوير والرحلات والسهرات التي لم تكن تبخل فيها الأخت الكبرى على أخواتها. أما في الشركة فبقيت علاقاتها مع زميلاتها ضمن حدود العمل. أما في النوادي الرياضية فقد كان الموضوع معقداً بعض الشيء، وسيدخلنا إلى حياتها الجنسيّة في تلك المرحلة.

على الرغم من أنّ سميرة لم تكن تجاهر بمثليتها الجنسيّة، إلا أنّها كانت مكشوفةً على ما يبدو للنساء والفتيات اللاتي كنّ يترددن على النوادي الرياضية التي كانت تتردد عليها. كان لهذا الكشف سلبياتٌ وإيجابيات. أما السلبياتُ فأهمها تجنّب أكثرية النساء والفتيات الاختلاط معها. أما الإيجابياتُ فأهمها تقرّب بعض الفتياتِ الفضولياتِ منها؛ فتياتٍ كانت لديهنّ رغبةٌ في تجربة العلاقة “المحرّمة”. لا يتفق رامي معي في اعتبارها إيجابيةً ويقول “أقامت علاقاتٍ جنسيةً مؤقتةً مع بعض فتيات النوادي. راق لها هذا الوضع في البداية، ولكنه تسبب باكتئابها لاحقاً”. ويؤكد بأنّها “حاولت الذهاب في هذه العلاقاتِ إلى ما بعد الجنس إلا أنّ كل محاولاتها ذهبت سدى…لقد كانت تبحث عما هو أعمق من ذلك”. بصرف النظر، لقد لبّت هذه العلاقاتُ المؤقتة واحدةٍ من أهمِّ الرغبات الإنسانية المشروعة.

قالت لي في تلك الفترة “لقد حمّلتُ وفاء ما لم تكن تحتمل”! وهذا يعني أنها حمّلت المجتمع كله ما لم يكن يحتمل! بدأت هذه القناعة الانقلابية تترجمُ على أرض الواقع، حيث صارت أكثر مرونةً في التعاطي مع المجتمع والناس، أكثر حذراً في الإفصاحِ والتعبير عن مكنوناتِ الصدر ومطالب الجسد…صارت أكثر واقعيةً وأقلّ حلماً…بدأت بالتعوّد!

كانت أم سميرة تنظر إلى ابنتها بفخرٍ وتباهي بها كل نساء الحارة، إلا أنّ ثمة غصةً في حلقها كما يقال. فهي مثلما كانت تحلم برؤية ابنتها المفضّلة طالبةً جامعية، فإنها تحلم برؤيتها في الثوب الأبيض. ولكن ابنتها ترفضُ كل من يتقدّم لها، على ندرتهم طبعاً، لا بل إنها ترفض حتى مجرد استقبالهم. وأقول على ندرتهم لأنّ سيرة سميرة وشخصيتها وسلوكها أشياءُ تحولُ، من وجهة نظر المجتمع، دون حصول تدافع الخُطّابِ الاعتيادي للظفر براتب المهندسة!  

ازدادت الضغوط على سميرة؛ ضغوط أخيها وأخواتها وأقربائها وجيرانها وزملائها وزميلاتها…وزادها قلقاً وجه أمها المترقّب. اقتربت من الثلاثين، والثلاثون لعنةٌ مجتمعيةٌ تنزل بالفتيات غير المتزوجات! كل أخواتها تزوّجنَ باستثناء واحدةٍ فقط حال بينها وبين الزواج أصابتها بمرضٍ مزمن. أما سعيدُ فقد كان خاطباً. أضف أيضاً أنّ سميرة كانت تشاهدُ وتعيشُ تفكك وانهيار منظومة التماسك المجتمعي في بيئات الحواري، والهجرة المتسارعة للناس من هذه المناطق إلى مناطق أخرى أكثر سلاماً وذوقاً. فأحسّت بالخوف، والخوف من أهم الدوافع الإنسانية.

في إحدى المرات، وبينما كانت تشتري الخضروات والفواكه من حسبة الغويرية، وإذْ بأحد القذرينَ يقترب منها ويقوم بلمسها على مؤخرتها! فتشتعل غضباً وتقوم بشتمه، لا بل وبمحاولة ضربه…ابتعد القذر عنها ووقف في وسط السوق وأخذ يكيل الشتائم…والناس تتفرج! ثمّ توارى عن الأنظار بعد أن أمطرها بشتائم من مختلف الألوان. غضبت سميرة غضباً شديداً، إلا أنها عادت وتمالكت أعصابها، ومضت إلى سيارتها بعد أن ظنّت السافلَ “انقلع” من غير رجعة. وما أن تحركت سيارتها قليلاً حتى تفاجأت به يقف في وسط الطريق ويقوم برمي ببيضتين على زجاج سيارتها ويولي مدبراً…والناس تتفرج!

عَلِمَ أخوها بما حدث، فطار عقله، ولكنه، كما يفعل كثيرٌ من الناس، أخذ يلوم الضحية ويبررُ للمجرم!

تركت تلك الحادثة جرحاً غائراً في نفسها، وصارت تميل إلى استنتاجٍ خلاصته أنّ مجتمع الزرقاء عموماً، والغويرية خصوصاً، هو مجتمع “خربان”…حاولت أن تقنع والدتها بشراء شقّةٍ في عمّان، أو في الزرقاء الجديدة على الأقل…عرضت عليها وعلى أختها أن تسافرا معها إلى الإمارات لتعمل في إحدى الشركات هناك…وباءت جميع محاولاتها بالفشل. كان بإمكانها أن تستقل بحياتها؛ أن ترحل أو تسافر أو تهاجر، ولكنها أبعد ما تكون عن الأنانية والنكران؛ لم تكن لتدير ظهرها لأمها وأختها؛ أمها التي ضحّت وتعبت في سبيل نجاحها وأختها المريضة التي كانت بأمسِّ الحاجة إلى من يقف معها!

تكررت مثل هذه الحوادث، وتكررت معها حوادث كراهيةٍ كانت أشدّ وقعاً عليها. دخلت يوماً إلى أحد محلات الألبان القائمة في الحيّ، وكان صاحب المحلّ من المستشيخين. ألقت السلام ولكنها لم تسمع الرد. بدأت بسرد أسماء المنتجات التي تريدها، فقاطعها صاحب المحل بكلمة “ما في”! وقبل أن تعبّر عن استغرابها أضاف “ما بدّي أبيعك”! استفسرت عن السبب، فكرر الجملة ذاتها…وخرجتْ دون اعتراض!

كنتُ ووالدي في السوق نبحث عن تكسي، فمرّت بسيارتها صدفةً من أمامنا، فتوقفت ونادت علينا وعرضت أن توصلنا إلى المنزل. رفضَ الجارُ وأخذ يشرحُ لها بأننا لم نكن ننتظر تكسي بل كنا نريد أن نقطع الشارع فقط! ابتسمتْ ومضتْ في طريقها. سألتُ والدي باستياءٍ عن سبب رفضه فأجاب “هاي بنت مشبوهة، وإحنا مش ناقصنا”!

تعوّدت سميرة على المعاكسات والتحرشات والكلام الجارح، ولم تكن تكترث إلا إذا شعرت بأنّ الوضع لا يمكن السكوت عليه. هذا ما حصل لها في أثناء جولةٍ شرائيةٍ في السوق. فقد كانت تهمُّ بركوب سيارتها عندما تمادى عليها أحد الوسخينَ ونعتها بكلمة “شرموطة”! كادت أن تفقد صوابها، وحاولت أن توجه بعض الضربات إلى ذلك الأهوج. شاءت الأقدار، أو الصدف، أن يكون سعيدٌ مارّاً من هناك! ففقد صوابه، وهجم على الوغد، وبدأ بتوجيه اللكمات إليه، وكذا فعلت سميرة. فرّق الناس بين المتقاتلين، ولاذ المجرمُ بالفرار!

صار هذا الحادث الأخير علامةً فارقةً في حياتها؛ فقد دفعها لأن تفكر بمنظورٍ أوسع. فما الذي كان سيحدث لو لم يتدخل الناس؟ لقد كان سعيد يغلي غضباً، ولو لم يتدخل الناس وقتها لربما تطوّر العراكُ إلى جريمة قتل! ماذا لو تكرر مثل هذا الحادث؟!

أصيبت بالحزن المرضي، بالاكتئاب، باليأس…ازدادت اغتراباً…توقفت عن الذهاب إلى النوادي الرياضية، ولم تعد تخرج من البيت إلا للذهاب إلى عملها أو عند الضرورة القصوى!

وبدأت تذبل رويداً رويداً؛ تذبلُ معنوياً وجسدياً. كانت أم سميرة تعبّر لجدتي، بشكل شبه يومي، عن قلقها وخوفها على ابنتها. تحدثها عن نحولها وقلّة نومها، عن منغصاتها في العمل، عن المطبات البشرية التي تواجهها أثناء قيادتها للسيارة…كانت تبكي وتدعو الله أن يبعد عنها نوائب الدهر!

ساقتها تلك الأحداث والأوضاع والتراكمات إلى ذلك اليوم…كنت أقف في الحارة، وإذْ بها تخرج من منزلها واضعةً على رأسها “شالة” سوداء! استسلمت سميرة وارتدت حجاباً يدرك الناظر إليه أنه حجاب رفع عتب لا أكثر! فرحت أمها وانتعش أخوها الذي كان منشغلاً في التحضير لحفلة زواجه. لم يكن حجاب سميرة ابن يومٍ وليلة، بل سبقته تغيّراتٌ ملموسةٌ في طريقة لباسها، وفي طريقة مشيها…وفي ترددات صوتها، وفي صمتها.  

ومضت الأيام، وتزوج سعيدٌ وسكن وزوجته في نفس البيت مع أمه وأختيه. وبنمطيةٍ معهودة، لم تكن علاقة زوجة الأخ مع أسرته الأولى في حالٍ حَسن. ولكي أكون أكثر دقةً، لم تكن علاقة سميرة مع زوجة الأخ على ما يرام، مما يعني ضغطاً جديداً من نوعه عليها. ولكن لم يدم ذلك الضغط طويلاً؛ ففي أحد الأيام قرع خُطّابٌ بيت أم سميرة. ابنهم في نهاية الثلاثينات، ويعمل مهندساً في إحدى الشركات في عمّان. تبيّن لاحقاً أنّ هذا العمّاني قد تعرّف على سميرة من خلال التعاملاتِ التي كانت تتم بين شركتيهما، ويبدو أنه فاتحها بموضوع الخطبة والزواج وأنها أبدت نوعاً من الموافقة!

ارتدت سميرة الأبيض رغماً عنها…سخر والدي منها ونحن في طريقنا إلى الصالة وقال “أكيد هيه لابسه البدلة والقرافة!”…لم أتمكن من رؤيتها في فستان العرس؛ فهذا الأمر شبه مستحيلٍ في حفلاتنا غير المختلطة!

ورحلتْ إلى عمّان. وقبل أن ترحل أعطت سيارتها لأخيها وذلك لتكون عوناً لأمها وأختها وله ولزوجته أيضاً! وأعطتني معظم ما في مكتبتها من كتب. هذا ولا أزال أحتفظ بمعظم هذه الكتب حتى هذه اللحظة.

تزوجتْ ابنة حارتنا، واستقرتْ في عمّان، ومضت سنونٌ ولم تُنجبْ. لا أحد يعلم لماذا، ولكن يقال أنّ العلّة في زوجها. وهي لا تزال تواظبُ على زيارة أمها العجوز وأختها بشكلٍ شبه يومي. وقد كانت تزور جدتي أيضاً، في رمضان والأعياد وبعض المناسبات الأخرى، وتعطيها مبلغاً من المال مع كل زيارة. رأيتها آخر مرة قبل ست سنوات، وذلك في عزاء جدتي. ملامحها تبدّلت، وبحّة صوتها اشتدّت…أخذ الكِبَرُ منها نصيباً. سلّمتْ عليّ وقدّمت واجب العزاء. كنت أرغب بالوقوف معها أكثر إلا أنّ الظروف المحيطة لم تسمح بذلك.

هل انتهت قصة ابنة حارتنا؟!

 

 

* تم تغيير الأسماء وبعض التفاصيل وذلك من باب الحفاظ على الخصوصية.